سورة إبراهيم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ} أي بأمره أو بتوفيقه وهدايته، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهارُ مزيدِ اللطفِ بهم والمُدْخِلون هم الملائكةُ عليهم السلام، وقرئ على صيغة المتكلم فيكون قوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقاً بقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} أي يحيّيهم الملائكةُ بالسلام بإذن ربهم.
{أَلَمْ تَرَ} الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وقد عُلّق بما بعده من قوله تعالى: {كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به {كَلِمَةً طَيّبَةً} منصوبٌ بمضمر أي جعل كلمةً طيبة هي كلمةُ التوحيد أو كلَّ كلمة حسنةٍ كالتسبيحة والتحميدة والاستغفارِ والتوبة والدعوة {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} أي حكَم بأنها مثلُها لا أنه تعالى صيّرها مثلَها في الخارج وهو تفسير لقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} كقولك: شرّف الأميرُ زيداً كساه حُلةً وحمله على فرس، ويجوز أن يكون (كلمة) بدلاً من مثلاً وكشجرة صفتُها، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هي كشجرة وأن يكون أولَ مفعوليْ ضرب إجراءً له مُجرى جعل قد أُخّر عن ثانيهما، أعني مثلاً لئلا يبعُد عن صفته التي هي كشجرة، وقد قرئت بالرفع على الابتداء {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي ضارب بعُروقه في الأرض، وقرأ أنسُ بنُ مالك رضي الله عنه: {كشجرة طيبة ثابتٍ أصلُها}، وقراءةُ الجماعة أقوى سبكاً وأنسبُ بقرينته أعني قوله تعالى: {وَفَرْعُهَا} أي أعلاها {فِى السماء} في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعُها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع.


{تُؤْتِى أُكُلَهَا} تعطي ثمرَها {كُلَّ حِينٍ} وقّته الله تعالى لإثمارها {بِإِذْنِ رَبّهَا} بإرادة خالقِها، والمرادُ بالشجرة المنعوتةِ إما النخلةُ كما روي مرفوعاً أو شجرة في الجنة {وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لأن في ضربها زيادةَ إفهامٍ وتذكير، فإنه تصويرٌ للمعاني بصور المحسوسات.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} هي كلمةُ الكفر والدعاءِ إليه، أو تكذيبُ الحق، أو ما يعم الكل، أو كلُّ كلمةٍ قبيحة {كَشَجَرَةٍ} أي كمثل شجرة خبيثةٍ، قيل: هي كلُّ شجرةٍ لا يطيب ثمرُها كالحنظل والكشوث ونحوهما، وتغييرُ الأسلوب للإيذان بأن ذلك غيرُ مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمرٌ ظاهرٌ يعرفه كل أحد {خَبِيثَةٍ اجتثت} استُؤصِلت وأُخذت جثّتُها بالكلية {مِن فَوْقِ الأرض} لكون عروقها قريبةً منه {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} استقرارٍ عليها.
{يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكّن في قلوبهم وهو الكلمةُ الطيبةُ التي ذُكرت صفتُها العجيبة {فِى الْحَياة الدُنيا} فلا يُزالون عنه إذا افتُتِنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحابُ الأخدود {وَفِي الأخرة} فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تُدهشُهم أهوالُ القيامة أو عند سؤال القبر. روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكَر قبضَ روحِ المؤمن فقال: «ثم يُعاد روحُه في جسده فيأتيه ملكان فيُجلسانه في قبره، فيقولان: مَنْ ربك وما دينُك ومن نبيُّك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلامُ ونبيّي محمد عليه الصلاة والسلام، فينادي منادٍ من السماء أنه صدق عبدي» فذلك قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} وهذا مثالُ إيتاءِ الشجرةِ المذكورة أُكُلَها كل حين. قال الثعلبي في تفسيره: أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة ستٍ وثمانين وثلاثمائة، قال: سمعت أبا الطيب محمدَ بنَ علي الخياطَ يقول: سمعت سهلَ بنَ عمار العملي يقول: رأيت يزيدَ بن هارون في منامي بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أتاني في قبري ملكان فظّان فقالا: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فأخذتُ بلحيتي البيضاءِ، فقلت لهما: ألمِثلي يقال هذا، وقد علّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة؟ فذهبا.
{وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي يخلق فيهما الضلالَ عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارِهم، والمرادُ بهم الكفرةُ بدليل ما يقابله ووصفُهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعِه وإما باعتبار ظلِمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابتِ، أو كلُ من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراضِ عن البينات الواضحة فلا يتثبّت في مواقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق، فالمرادُ بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان والراسخون في الإيقان كما ينبىء عنه التثبيتُ لكنه يوهم كونَ كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخلةً تحت ما لا قرارَ له من الشجرة المضروبة مثلاً {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} من تثبيت بعضٍ وإضلالِ آخرين حسبما توجبه مشيئتُه التابعةُ للحِكم البالغة المقتضيةِ لذلك، وفي إظهار الاسمِ الجليل في الموضعين من الفخامة وتربيةِ المهابة ما لا يخفى، مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيتِ والإضلال فإن مبدأ صدورِ كلَ منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العُلا غيرُ ما هو مبدإ صدور الآخر.


{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرةُ من الأباطيل التي لا تكاد تصدُر عمن له أدنى إدراك، أي ألم تنظُر {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ} أي شكرَ نعمته تعالى بأن وضعوا موضعَه {كُفْراً} عظيماً وغمْطاً لها أو بدلوا نفسَ النعمة كفراً، فإنهم لما كفروها سُلبوها فصاروا مستبدلين بها كفراً كأهل مكةَ حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمَه الآمنَ الذي يجبى إليه ثمراتُ كل شيء وجعلهم قِوامَ بيته وشرّفهم بمحمد عليه الصلاة والسلام فكفروا ذلك، فقُحطوا سبع سنين وقُتلوا وأُسروا يوم بدر، فصاروا أذلأَ مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها. عن عمر وعلي رضي الله عنهما هم الأفجران من قريش: بنو المغيرةِ وبنو أمية أما بنو المغيرة فكُفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فَمُتِّعوا إلى حين. كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} الآية {وَأَحَلُّواْ} أي أنزلوا {قَوْمَهُمْ} بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلالِ، وعدمُ التعرض لحلولهم لدلالة الإحلالِ عليه إذ هو فرْعُ الحلول كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} {دَارَ البوار} دارَ الهلاك الذي لا هلاكَ وراءه.
{جَهَنَّمَ} عطفُ بيان لها، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل {يَصْلَوْنَهَا} حال منها أو من قومهم أي داخلين فيها مُقاسِين لحرّها، أو استئنافٌ لبيان كيفيةِ الحلولِ أو مفسر لفعل يقدر ناصباً لجهنم، فالمرادُ بالإحلال المذكورِ حينئذ تعريضُهم للهلاك بالقتل والأسرِ لكن قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أنسبُ بالتفسير الأول {وَبِئْسَ القرار} على حذف المخصوصِ بالذم أي بئس المقرُّ جهنمُّ أو بئس القرار قرارُهم فيها، وفيه بيان أن حلولهم وصِلِيَّهم على وجه الدوام والاستمرار.
{وَجَعَلُواْ} عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمِهم {لِلَّهِ} الفردِ الصمدِ الذي ليس كمثله شيءٌ وهو الواحد القهار {أَندَاداً} أشباهاً في التسمية أو في العبادة {لِيُضِلُّواْ} قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا {عَن سَبِيلِهِ} القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال، ولعل تغييرَ الترتيب مع أن مقتضى ظاهرِ النظمِ أن يُذكر كفرانُهم نعمةَ الله تعالى، ثم كفرُهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار، لتثنية التعجيبِ وتكريرِه والإيذانِ بأن كل واحد من وضع الكفر موضعَ الشكر وإحلالِ القوم دارَ البوار، واتخاذِ الأنداد للإضلال أمرٌ يقضي منه العجبَ، ولو سيق النظمُ على نسق الوجود لربما فُهم التعجيب من مجموع الهَنات الثلاثِ كما في قصة البقرة، وقرئ: {ليَضلوا} بالفتح، وأياً ما كان فليس ذلك غرضاً حقيقياً لهم من اتخاذ الأندادِ لكن لما كان ذلك نتيجةً له شُبّه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية.
{قُلْ} تهديداً لأولئك الضالين المُضلين ونعياً عليهم وإيذاناً بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرْطِ إنهماكِهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحاً ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم: {تَمَتَّعُواْ} بما أنتم عليه من الشهوات التي جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ليس إلا، فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوح به قولُه سبحانه: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} الخ، فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ، وفيه من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيد ما لا يوصف، أو قل لهم تصويراً لحالهم وتعبيراً عما يُلجئهم إلى ذلك: تمتعوا، إيذاناً بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هم فيه من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع، فليس قوله تعالى: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} حينئذٍ تعليلاً للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحب عليه الكلام، كأنه قيل: هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8